المصدر: محمد برشي

أن يرتقي التلميذ ليصبح طالبا جامعيا في مدينة غير مدينته، وتكون هذه المدينة حيث توجد الكلية بعيدة جدا عن مقر سكناه، فمعناه أن هذا الشخص ليس مجرد طالب علم فقط، بل هو كذلك الى جانب تلك الصفة جندي بمعنى آخر، يخوض غمار حرب تعرف هدنة مؤقتة موعدها كل عطلة صيف، وحرب يملك هذا الطالب الجندي بيديه مصير إنهائها في أربع سنوات.
إن أكثر ما كان يؤرقنا يوم كنّا طلبة في كلية الحقوق بمكناس، هو هاجس السكن، خصوصا للمحرومين من المنحة منا، خصوصا مع تعذر الإقامة بالحي الجامعي البعيد جدا عن الكلية، فكان البديل هو إيجار الغرف في إحدى المنازل القريبة من الكلية. والتي كان إيجار الواحدة منها والمتوسطة المساحة يكلف في ذلك الوقت حوالي خمسمائة درهم شهريا، يستفيد منها الأجير الذي يملك بيتا بطابقين على الأقل، يشغل في الغالب مع أفراد عائلته إحدى تلك الطوابق ويعرض غرف الطوابق المتبقية للطلبة حتى يتمكن من زيادة دخله.
قادتني الصدفة كي أسكن في نفس الطابق الذي يسكن فيه "حميد" بحي السلام، وقد كان يشغل لوحده غرفة صغيرة، كان محظوظا لأنه وقع عليه الاختيار من طرف الأجيرة التي تشغل الطابق الأرضي كي يقدم لابنتها التي تدرس في الثامنة أساسي دروس التقوية في بعض المواد مقابل خصم في ثمن ايجاره، وقد كانت تلك التلميذة تصطحب معها أخوها الصغير ليجلس غير بعيد عنهما حتى تنتهي الحصة بسلام ودون إراقة دماء!. وقد اتفق انه ذات يوم أن جلس "حميد" الى الطاولة مع تلك التلميذة يقدم لها دروس الدعم في اللغة الفرنسية، أن طلب منها إذن الغياب لفترة قصيرة ليدخن خارج البيت، فكانت عودته سريعة تفاجأت لها التلميذة فحاولت على عجلة من أمرها وفي ارتباك شديد إخفاء ورقة بين ثنايا كتابها كانت تلهي نفسها بكتابة شئ عليها ريثما يعود.
كان اصرارها على اخفاء تلك الورقة بقدر اصراره على الإطلاع على فحواها، فلما حاول انتزاع الكتاب بالقوة منها حتى يتمكن من قراءتها، أمسكت بدورها بذلك الكتاب بقوة أشدّ، ثم انهارت فأجهشت ببكاء حاول بعده "حميد" تهدئتها بتجاهل أمر تلك الورقة، بعدما فطن الى أن البكاء بتلك الطريقة لن يكون وراءه سوى جرح عميق داخلها قد تحتوي تلك الورقة على سره الذي ترفض شيوعه.
تجاهل حميد أمر الورقة فأصر على استئناف الدرس، لكنه لاحظ أنها كانت شاردة الذهن مهما حاولت التظاهر بالانتباه اليه، وقد كانت يديها منشغلتين بتمزيق تلك الورقة مثنى وثلاث ورباع .... حتى جعلت منها قطعا صغيرة تخلصت من كومتها بوضعها في زاوية الطاولة. بعدما فطن "حميد" الى كون تلميذته شاردة وغير مستعدة لاستئناف درس اليوم، أنهى الحصة قبل وقتها، وبمجرد أن غادرت غرفته، عاد مسرعا ليجلس الى الطاولة يتحسس كومة القطع الورقية و يتسائل أي سر تحمله هذه الأوراق ؟ أي سر عكر ميزاج تلك التلميذة بتلك الكيفية ؟
كان حميد كما أعرفه قبل ذلك صديقا بثانوية الحسن الثاني بتنجداد قوي الذكاء لا يكلفه الموسم الدراسي حينها سوى دفتر واحد يستعمله لرسم الكاريكاتورات عندما يسأم من متابعة دروس أستاذه في الفصل، لم يشتر يوما مقررا دراسيا واحدا، بل كان يكتفي بالتطفل على مقررات كل زميل يقاسمه الجلوس على نفس الطاولة، ورغم ذلك، فقد كان يستأثر بالنقطة الأولى بفضل ذكائه الخارق. انتقل الى مكناس لاستئناف الدراسة و اختار شعبة القانون باللغة الفرنسية. كان يدخن كل أنواع الحشيش ويملأ فراغه بمحاولة حل ألغاز شبكات الكلمات المسهّمة لكل من أبو سلمى و الشريف الادريسي التي تباع شبكاتهما مطبوعة في أكشاك الكلية.
وسوس شيطان الفضول في نفس حميد، فظل يبحث في تلك الكومة من الأشلاء الورقية على شيء يقوده الى حل اللغز الذي تحمله، ولأن المهمة كانت شبه مستحيلة أمام صغر حجم تلك القطع، فقد قرر ركوب مغامرة محاولة إعادة ترتيبها على الطاولة في عملية استهلكت منه الليلة كلها، يتناوب خلالها بين محاولة وضع كل قطعة في مكانها المناسب وتنشيط ( أو تدمير ) دماغه بلفائف سجائر الحشيش.
بعد ساعات من المحاولات المتكررة، توصل الى معرفة فحوى تلك الورقة التي كتبت عليها بعض الكلمات المؤثرة : ( من أنا ومن أكون ولماذا علي أن أتحمل تبعات ذنب والدي ).كانت تلك الكلمات كافية ليستوعب حميد تلك الشائعات التي يسمعها حول كون أجيرته عاقر حصلت على طفليها من خيرية محلية. كما بدأ يفهم سرّ الخطاب العنيف القادم من الطابق السفلي بين الفينة والأخرى عندما تهاجم الاجيرة ابنتها بالتبني بقولها "سيري يا الملقطة!!"
لطالما تفاخرنا بكون مجتمعنا المسلم متفوق في جميع الجوانب على مجتمع الغرب الكافر، في عنجهية أينعت أزهارها في ذواتنا بسبب أكاذيب صادرة منا وكنا أول من صدقها، والحقيقة أن الغرب أرحم منا في العديد من الجوانب بكثير من الفئات المنبوذة عندنا بسبب خطايا آبائهم التي لو لهم يد فيها لغيروا مجراها، فأسوأ حظ يبتلى به أي إبن أو بنت غير شرعيين هو أن يكون ميلادهما في مجتمعنا، مجتمع تفنن في ابتكار أقبح النعوت والأوصاف لهذه الفئة، حولتهم الى كومة من المعاناة النفسية الرهيبة يستعجلون على وقعها حلول الأجل للاستراحة من حياة استحالت بالنسبة اليهم الى عقدة بسبب الاختيارات الغير المسؤولة لغيرهم.
فهل كانت تلميذة "حميد" سيكون جسمها بذلك الذبول وبتلك النظرة المنكسرة لو ولدت في مجتمع غربي ينصفها؟! وهل كان ستيف جوبز" ليحقق ذلك النجاح القريب من الإعجاز لو قدر له" أن يترعرع في مجتمعنا الذي يقتل فيه القيل والقال كل ملكة للابتكار وصنع الامتياز لدى ضحايا هذا اللسان السليط؟!.بلغوا سلامي لحميد مهداوي الذي أصبح ضابط شرطة في تنغير، فقد انقطعت السبل بيني وبينه قرابة أربعة عشر سنة.
تابعونا عبر الفيسبوك هنا
ليست هناك تعليقات: